سائراً بلا هدف  بعد جلسة مطولة مع أصدقاء العمل على إحدى المقاهي ظل يفكر في بعض ما قالوه و نصحوه به.. " لقد مازلت في أواخر الثلاثينات و أبنائك مازالوا صغاراً.. تزوج لتهنأ بشبابك و ترعى طفليك اليتامى".. "التحق بالعمل في الخليج.. سيلهيك العمل عن كل شيء.. اترك طفليك مع والدتك لتؤمن لهم مستقبلهم".. " أرض بما قسمه لك الرب.. كلنا لها".. و غيرها من تلك النصائح المكررة في مثل حالته و التي يجب أن تذكر على الأقل كنوع من تأدية الواجب شأنها شأن المواساة.. مازال مبلبل المشاعر يجمع بين الصدمة على رحيل حبيبته المفاجئ و عدم تصديق كل هذه التغيرات المفاجئة في شهرين بدون سابق إنذار و بين الحيرة فيما سيفعله في المستقبل.. كم تمناها أن تكون معه ليفكرا سوياً كما اعتاد.. مستمراً في شروده السائر حتى بدأ يدرك أن قدماه قادته إلى محل نشأته.. إلى شارع حفني.. ذلك الشارع البسيط الذي أقام فيه طوال فترة طفولته مع جدته و أخيه الأكبر حين قرر أباه أن يبعثهم هناك من بلدتهم ليدرسوا في القاهرة قبل وجود مدارس في قريتهم.. بدأ يسير ببطء و شرود ناظراً إلى معالم الشارع التي لم تتغير إلا في أضيق الحدود تقريباً.. بدأت تداعبه ذكريات الطفولة و عدم قدرته على نطق اسم الشارع حين كان يقول شارع حنفي بدلاً من حفني و يذكر أن هناك يافطة بأسم الشارع مكتوب عليها حنفي أيضاً و كانت تسير سخريته فيما بعد أن من كتبها ربما يكون طفل صغير أيضاً.. نظر عن يمينه ليجد اليافطة القديمة موجودة كما هي بالأسم الخاطيء بجوار الجامع الذي كان يصلي فيه.. " الشارع ده كنا ساكنين فيه زمان .. كل يوم بيضيق زيادة عن ما كان".. أخذ يخطو متمهلاً بعد الجامع حتى وصل .. إنه البيت الذي عاش فيه.. وقف ناظراً له في شجن.. بدأ يشعر بذكريات قديمة مر عليها فوق العشرين عاماً و كأنها حدثت بالأمس القريب.. أمام مدخل البيت حيث كان يلعب مع أبناء الجيران.. رفع ناظريه إلى الأعلى



متأملاً شرفات البيت المتهالك منذ رآه أول مرة في الدور الأخير حيث كانت تسكن الحاجة أم عاطف.. بدأ يسترجع ذكريات مجيئها للمنطقة أرملة كبيرة تبدو عليها إمارات العزة و الرقي كان لديها ثلاثة من الإناث و اثنين من الذكور كانت تقطن بشقة فاخرة في المعادي حتى زوجت ابنتاها الكبار.. لا يذكر من أسماء ابنائها سوى "ثريا" الكبيرة و " أحمد" أوسطهم و الصغير"عاطف" و بالرغم من أنه الصغير إلا أن الجميع اعتادوا أن ينادوها باسم "أم عاطف"

زوج ابنتها الكبرى "ثريا" هو صاحب هذا البيت.. كان قد حصل من حماته على توكيل لشقتها الكبيرة في المعادي و أستغل هذا التوكيل و نقل ملكية الشقة الفاخرة لنفسه.. و بعد محاولات مضنية و أزمة هزت كيان العائلة أعطاها كبديل هذه الشقة الصغيرة المتواضعة في عمارته في الشارع الفقير.. جاءت إلى الشارع و هي تتميز غيظاً من زوج ابنتها النصاب و كان الجميع في العمارة و في الشارع يوقرونها لعلو منزلتها الاجتماعية.. كان عاطف الصغير في المرحلة الإعدادية أكبر منه هو و أخيه و أبناء باقي السكان لذلك لم يشاركوهم ألعابهم و لكن هذا لم يمنع تردد الأطفال في العمارة على شقة الحاجة أم عاطف كثيراً لتطعمهم من أصناف الطعام الشهية التي كانت تطهوها و تخبرهم بأسمائها الغريبة على لسانهم و هم يتضاحكون و هم يحاولون نطق أسماء هذه الأكلات حتى ينتهي الأمر باليأس و الاهتمام بالأكل فقط.. كما كانوا يستمتعون بمجالستها وهي تعطي لهم بعض النصائح عن الإتيكيت و تحكي لهم بعض القصص عن زوجها و حياتها و التي كانت دائماً تختمها بذكر زوج ابنتها و تصب عليه اللعنات و تدعو بأن ترى بعينها هلاكه جزاء ما فعله بها و بشقتها .. مرت السنين و صار أحمد ضابطاً و عاطف طياراً و تزوجت الفتاة الرابعة التي لا يذكر اسمها.. و يذكر حين جاء يوماً بخبر أن صاحب العمارة قد تعرض لحادث بشع بسيارته أودى بحياته و لكن هذا اليوم الذي حلمت به الحاجة أم عاطف لم تستوعبه لأنها كانت في غيبوبة من قبله في آخر مراحل مرضها بسرطان العظام الذي أنهى حياتها بعد زواج ابنتها بيومين تقريباً.. و بعدها بسنين من إقامة الأخوان، تزوج أحمد و أقام في الشقة نفسها و ذهب عاطف بين رحلاته من بلد لبلد و إقامته أيام معدودة داخل مصر

 

كـــــتـــابـــة : حـــسام الــديــن ســالـــم

 
 

بأصابع مرتجفة أخرج الفتى جنيهاً من جيبه و أعطاه للرجل عند شباك التذاكر.. أخذ تذكرة المترو و ذهب في اتجاه القطار.. الزحام كان شديداً لكنه مازال متوجساً.. شعوره أن هناك من يراقبه لا يفارقه رغم أن وجوه الناس المهمومة في آخر النهار لا توحي بأي اهتمام ناحيته.. ربما لأنه لم يسبق له أن شارك في عمل سري مثل هذا.. نزل السلالم و التفت خلفه في عصبية لينظر من وراءه.. لا أحد ينظر إليه لكنه مازال مرتبكاً.. وسواسه الطفولي يوحي له بأن من حوله يؤدون دور رجال المخابرات المصرية في بئر الخيانة و هم يتبادلون الأدوار كلما التفت جابر ( نور الشريف) الجاسوس خلفه.. انتظر عربة المترو.. لقد أخبر والدته أنه ذاهب للعب الكرة مع أصدقائه.. لا يعلم من أين جائته هذه الفكرة العقيمة عن رياضة لم يمارسها قط ولا يعلم كيف اقتنعت هي بحجته في الخروج ولا كيف وافقت رغم عدم سماحها عادة بالخروج في منتصف أيام الأسبوع.. لكنه القدر

 جاء المترو.. حشر نفسه في العربة كآخر قميص في شنطة سفر ضيقة.. سينزل عند محطة ضواحي الجيزة.. لا يعرف عنها شيئاً و لم يذهب إليها في حياته إلا مرة واحدة و كانت عن طريق الخطأ. هذه المرة ذاهب إليها عن عمد.. شاب ضخم أمامه يتفحصه.. إنه مرتبك بما فيه الكفاية ولا يطيق أي فضولي الآن.. وصل المترو للمحطة.. قفز منه مسرعاً وهرول للخارج ليهرب من المتلصص الذي لا يراه.. ها قد وصل الشارع.. لقد أخبره طارق في التليفون أن المكان في شارع غرب الضواحي.. أو ربما جرد الضواحي .. لم يكن صوت طارق واضحاً فضلاً عن أنه لا يذكر العنوان بدقة أصلاً.. لقد أخبره أن يسير بعد الخروج للشارع في اتجاه القطار.. تباً إن القطار بطول الشارع .. أي اتجاه سيسير فيه

على بركة الله سيسير يميناً بجانب سور القطار على كل حال هو قد وصل للشارع المنشود لكن في أي اتجاه سيجد محل الكاوتش الذي لا يذكر طارق أسمه؟.. بدأ يسير في تؤدة ليهديء أعصابه وظل يشاهد إعلانات الدروس الخصوصية على واجهة السور الطويل.. " أسوار كتير قدام عنينا بتعلى و بتملانا خوف".. نعم لقد كذبت على والدتي.. لم أكن لأخبرها لأنها لم تكن لتوافق أبداً.. و ليس لدي استعداد ألا أشارك هذه المرة أيضاً.. نظر خلفه مرة أخرى.. رجل واقف على مسافة ليست بالقريبة.. في حقيقة الأمر هو لا يخشى القبض عليه بقدر خشيته أن يعلم والداه بانضمامه لحركات سياسية إذا تم القبض عليه.. " علشان نعيش و عنينا مش قادرة تشوف".. رائع هاهو محل الكاوتش المفترض أن يكون المقر في نفس العمارة.. شقة باسم الأستاذ خالد المحامي.. إن "طارق" لم يتذكر في أي طابق بالضبط.. وقف أمام العمارة و نظر للأعلى لعله يجد يافطة باسم المحامي.. لا شيء.. هل هذا هو محل الكاوتش المقصود؟ أم أن شارع غرب أو جرد هذا به أكثر من محل للكاوتش؟ نظر للمدخل.. لا حجرة لغفير.. لا شيء سوى ثلاث درجات مهترئة و من خلفها مصعد متهالك.. أخرج هاتفه و اتصل بــ"طارق".. هو لا يذكر الطابق ولا اسم المحل لكنه على الأقل سيتذكر شكل المدخل.. " الهاتف المطلوب مغلق أو غير متاح.. يمكنك ... " أنهى الاتصال في نفاد صبر.. هو لا يجرؤ أن يسأل المارة أو صاحب المحل.. ربما كانوا يشكون في المحامي أو أي شيء من هذا القبيل.. " علشان يموت الحلم و يجف الأمل.. و نلاقي روحنا ف الطريق آخر الصفووف لماذا يثق في "طارق"؟ هو يعرفه فقط من ثلاث سنوات و لم يحدثه فيها في التليفون و لم يقابله.. لم لا يكون هو نفسه عميل للأمن ؟.. لا لا، ليس هكذا يتصرف العملاء.. ماذا سأفعل الآن؟ مرت من أمامه سيدة عجوز خارجة من باب العمارة التي ظل أمامها.. استجمع شجاعته.. "هل تسمحي؟ هل شقة الأستاذ خالد المحامي هنا؟" نظرت إليه في بلاهة

لا أعلم تباً.. لم يكن سهلاً أن أسألك.. حسناً سأنتظر هنا ربع ساعة إما أن يأتي "طارق" و إما سأعود من حيث أتيت.. مرت من أمامه شابة في العشرينات ذاهبة إلى المصعد.. نظرت له نظرة سريعة في شك ثم أرجعت طرفها أمامها.. شك أن تكون زميلة لكنه لا يريد أن يسألها.. وجد طفلاً صغيراً من أطفال الشوارع خارجاً من العمارة "هل الأستاذ خالد المحامي هنا؟" سأل الطفل "من؟" رد الفتى بصوت أعلى "الأستاذ خالد المحامي" فالتفتت الشابة و ردت  " نعم موجود.. تعال معي".. الحمد لله.. ركب معها المصعد.. ضغطت على رقم 5 و التفتت له بابتسامة ذات معنى "لماذا تريد الأستاذ خالد " فابتسم و قد تأكد أن الدار أمان "إنه صديقي منذ الطفولة البريئة" فضحكت بشدة.. " هو غير موجود أصلاً ستجد هنا الأستاذ هشام و الدكتور محمد و كامل من تعرفه منهم؟ .. لا أحد؟ إذن من أرشدك للعنوان" قال  طارق.. إذا افترضنا أن ما قاله كان إرشاداً" فابتسمت و فتحت باب المصعد ثم قادته للأدراج لينزلوا للطابق الثالث.. رفع حاجباه فقالت باختصار "تمويه".. لم ينطق رغم عدم اقتناعه.. وقفت أمام الباب.. طرقت عليه برفق ففتح لها شاب ضئيل جداً يشبه تماماً "تقاوي" زوج "زكية زكريا" في حلقات "الكاميرا الخفية" فأدخلهما بابتسامة لطيفة لصالة واسعة نوعاً ما و تركهما و ذهب للمطبخ ليعد لنفسه الشاي.. أخبرته أن يتصرف بحرية و ذهبت لغرفة جانبية فسحب مقعد بلاستيكي و دخل بهواً يمثل امتداداً للصالة المقسمة بشكل غريب و عشوائي ليجلس مع من بالداخل.. شاباً بديناً في الثلاثينات جالساً يدخن السجائر و يتحدث مع سيدة كبيرة توحي ملامحها ببعض الارستقراطية و تنفث سجائر أيضاً.. نظرا إليه و ابتسما "تفضل" دخل بخطى مرتجفة و وضع مقعده مقابلاً لهما و جلس.. عرض عليه الشاب سيجارة فشكره رافضاً.. "لقد كرهتها مثل كرهي للنظام".. فابتسمت له السيدة " ستتعذب في كل مرة تأتي فيها للمقر لأن جميعنا نعشقها مثل عشقنا للمقاومة" بدأ يشعر بنوع من الألفة فبدأ الشاب -الذي علم فيما بعد انه الدكتور محمد- يحدثه عن بداية الحركة و أهدافها و سعيهم لجمع أكبر عدد ممكن من الشعب ضد استبداد النظام عن طريق جمع توكيلات من المواطنين تفيد بتأييدهم لمطالب الحركة من تعديلات جوهرية لنظام الانتخابات بشكل يضمن انتخابات تأتي بمن يريده الشعب حقاً فأخبره أنه قد وقع بالفعل على إحدى هذه التوكيلات و جاء ليكون عضواً فعالاً في جمعها فأخذا يسألانه عن رأيه في الأحداث و عن مدى متابعته للوضع السياسي و انتخابات مجلس الشعب و بدأوا يتبادلون الحديث و الآراء حتى عاد الشاب الضئيل الذي علم أنه "كامل" و بدأ يتحدث عن آخر مرة اعتقل فيها حين كان يجمع توقيعات وحيداً خلف قسم العجوزة وعن المواقف الكوميدية التي تعرض لها و الجميع يضحك ثم بدأ الدكتور محمد يتخذ طابعاً جاداً و يتحدث عن تنظيم الحركة و طرق الجمع و كيف تتجنب الأزمات مع الشرطة و طريقة الحشد عند المظاهرات و هنالك سأل الفتى " هل شاركت في مظاهرات من قبل؟ فأخبره أنه ثائر منزلي قديم حتى هذه اللحظة.. هنالك وصل الأستاذ هشام و معه "طارق" أخيراً.. بدأ الأستاذ "هشام" يحدث الباقين عن بعض الملابسات القانونية في التعديلات الأخيرة و أخذ الفتى يتحدث مع "طارق" عن ذكريات معرفتهم و رؤيته أخيراً بعد سنين و عن هزلية وصف العنوان و يتضاحكا بعد ان أنهى الأستاذ "هشام" حديثه التفت للفتى "هل أنت المتطوع الجديد؟" .. نعم حسناً تعال معي و دخلا معا في الغرفة الجانبية التي دخلتها الشابة التي قادته فوجدها جالسة تفرز توكيلات و أخذ الأستاذ "هشام" دفتراً كبيراً و بدأ يسجل بيانات الفتى و بعدما أنهى عمله أعطى الفتى ورقة صغيرة مطبوعاً عليها رقم هاتفه الشخصي و هواتف بعض المحامين التابعين للحركة و أخبره ألا يتردد في الاتصال بهذه الأرقام إذا تعرض له أي من رجال الداخلية.. خرج الفتى من الغرفة فوجد الدكتور "محمد" و "كامل" يقفان في الصالة يتحدثان و يدخنان السجائر.. التفت له الدكتور "محمد" و سأله "هل حصلت على أرقام المكتب القانوني؟" قال "نعم" .. "حسناً.. لا تتردد في الاستعانة بهم.. هم قادرون على إخراجك سريعاً من أي أزمة.. أنصحك ألا تبدأ إلا في الحملات الجماعية أولاً قبل أن تتحرك وحدك في جمع التوكيلات.. هل تود الحصول على بعض المنشورات لتلصقها في الجامعة؟" بحماس شديد " نعم، أود ذلك" أعطاه بعض الملصقات و منشورات عن أهداف الحركة .. ودع الجميع و خرج عائداً إلى الشارع.. بدأ يسير عائداً بجوار سور القطار..غير مهتم بالعساس الهلامي السائر خلفه " بس إحنا نقدر ننتفض و نثور .. و بعزمنا هانعدي مليون سور.. نقف نقاوم عمرنا ما نهون .. نرفع شعار قاوم يا صاحبي تكون" رن هاتفه فرد على والدته " أين أنت؟".." أنا قادم في الطريق" .."حسناً سننتظرك على العشاء..هل فزت أم خسرت؟" بابتسامة كبيرة فزت و الحمد لله"

 

كـــــتـــابـــة : حـــسام الــديــن ســالـــم

 

        فتح عينيه في بطء و بدأ ينظر حوله الساعة في مكانها تشير إلى السادسة صباحاً مثل كل يوم.. لقد أعتاد على الإستيقاظ في هذا الميعاد حتى بدون منبه.. صورته على الكومود .. زوجته عن يساره نائمة في نفس الوضع و الغطاء قد أنزلق كالعادة .. نهض بتململه المعتاد و ذهب إلى الحمام .. غسل وجهه و أسنانه و توضأ و عاد لغرفته.. "ليلى ليلى.. انهضي" لا تستجيب كالعادة لأنها تنهض في السابعة بعد محاولات متكررة...كم مللت كسلها.. وقف على يمين السرير و شرع في صلاة الفجر.. أنهى صلاته.. لقد أصبحت السادسة و الربع " ليلى.. ليلى.. انهضي" لا تستجيب.. هو يعلم ذلك لكنه تعود على هذا الفعل التمهيدي في روتين يومه الممل قبل إشراقها على البيت.. ذهب إلى غرفة ابنه ليوقظه و جذبه جراً على طريقة عساكر عشماوي ل"منصور الطوبي" في بداية فيلم "إعدام ميت" وغسل وجهه عنوة حتى اطمأن من أنه قد أفيق وتركه ليغسل أسنانه.. ذهب للمطبخ ليعد لنفسه ولأبنه الشطائر.. فتح الثلاجة و نظر ساخراً.. فلنجرب اليوم الجبن.. حتى هذه الجملة الساخرة من التكرار اليومي في حياته أصبحت هي نفسها مكررة و سخيفة.. عاد لحجرته ليخرج ملابسه من الدولاب.. أرتدى القميص و البنطلون" ليلى ليلى انهضي" لا رد.. إنها السادسة والنصف خرج من غرفته و ذهب لغرفة ابنه ليتأكد أنه يرتدي ملابسه ليجده استغل غياب أبيه و نام من جديد.. فهزه بقوة.. "كفاك كسلاً.. ستتأخر" عاد للمطبخ و وضع الماء على النار ليعد لنفسه الشاي و أخذ الشطائر التي أعدها ثم عاد مرة أخرى للصبي الذي أوشك على الانتهاء.. وضع كيس الشطائر الخاص بابنه في حقيبته المدرسية.. ركع على الأرض ليعقد رباط حذاء ابنه.. عاد لغرفته "ليلى.. ليلى.. انهضي" سمع صوتاً ما أشبه الهمهمة.. حسناً إنها السابعة إلا الربع.. لقد أقترب موعد نهوضها المعتاد.. أخذ رباط العنق و البدلة و خرج من الغرفة.. وقف أمام المرآة في الصالة و بدأ يضبط ربطة عنقه و يمشط شعره.. نظر في المرآة إلى انعكاس صورة زواجه.. كم كنا رائعين في هذا اليوم.. بدأ يدندن أغنية "ليلى" التي اختارتها هي يومها لتكون أغنية الزفاف.." يا ضحكة الرمان.. نادت على العطشان"  يذكرها وهي ترسم على وجهها غضب طفولي مصطنع "كيف تجرؤ ألا تعرف أغنيتي ؟".. "لا أهوى منير" .."كيف تجرؤ على قول هذه الجملة عن منير؟".. لم يكن قد سمع بها قبل الزواج  و لم يكن يسمع منير الذي تعشقه زوجته لكنه تدرب منذ زفافهما على عشقه.. كم كنت سعيداً بالزواج من زميلتي التي عشقتها لسنوات.. هل أنا حقاً سعيد الآن؟.. إنها مخلصة خفيفة الروح و ابننا جميل لكن حياتنا مملة لأبعد درجة.. لقد سئمت التكرار.. كل شيء مكرر.. ضحكاتنا مكررة.. نذهب للعمل سوياً لننجز نفس ما أنجزناه بالأمس و نعود سوياً لنصطحب ابننا للبيت فتذهب لإعداد الطعام ونجتمع لنأكل ثم تجلس مع الصبي لاستذكار دروسه ثم نجتمع أمام التلفاز لنشاهد اللاشيء الذي نشاهده كل يوم ثم نذهب للنوم سوياً فتنام هي و أقرأ أنا بضع ساعات ثم أنام و أستيقظ قبلها.. كم هي كسولة.. أحلم بأي تجديد في حياتنا هذه.. عاد لإنعكاسه هو و أكمل تمشيط شعره الساعة السابعة.. سيحضر أتوبيس المدرسة الآنعاد للمطبخ ليصب الشاي ثم ذهب لغرفة

أبنه الذي أستعد للخروج.. قبّله و ودعه عند الباب.. ثم ذهب للشرفة ليتأكد من ركوبه الأتوبيس.. عاد لغرفته  ليلى.. ليلى أنهضي لا تستجيب.. دقيقتين و ستنهض.. عاد للمطبخ و شرع يشرب الشاي الذي أعده .. "وحلمك النعسان.. خايف من الهزة" عاد لغرفته.. مازالت نائمة.. لقد تأخرت هذه المرة مثلما حدث الأربعاء قبل الماضي و تأخرا عن العمل.. بابتسامة ساخرة.. مازال هناك بعض التجديد كل أسبوعين.."ليلى.. ليلى..إنها السابعة و الربع" لا تجيب.. سحب حقيبته للخارج.. وضع فيها الشطائر و تأكد من وجود أوراقه بداخلها.. ثم عاد مرة أخرى.."ليلى.. ليلى.. إنها السابعة و الثلث.. سنتأخر عن العمل" لا تجيب.. اقترب منها و أمسك بمعصمها يهزها لتفيق"ليلى..هاه!" مال معصمها بارداً؟.. مالها متخشبة في وضعها هكذا؟.. "ليلى" هزها بعض القوة.. لا حركة.. "ليلى.. ليلى" لا تستجيب.. كالمجنون بدأ يزلزل جسد زوجته كله .. "ليلى" وهي مثلما نظر إليها في السادسة.. وضع رأسه على صدرها.. لا يسمع شيئاً.. "أخبريني أنك بخير أرجوكي".. لم تخبره.. " رباه.. ليس هذا هو التجديد الذي أقصده.. ليلى!" وضع أصابعه على رقبتها.. لا يشعر بشيء.. أمسك جفنها يفتحه.. متصلب.. عيناها لا تتحركان من أسفله.. ثابتة إلى العدم.. فاقدة لأي معنى.. تهاوت ركبتاه راكعاً بجوارها.. ناظراً لها في عدم تصديق.. ستفيق الآن.. ربما سأفيق أنا الآن.. مستحيل.. هيا يا حبيبتي.. سنذهب للعمل سوياً لتداعبيني بوجهك الصبوح و تنظري إلي في خجلك المصطنع الضاحك بعد أن تأخرنا عن العمل بسببك.. لدينا طريق طويل مليء بالحكايات المسلية التي تحكينها عن العمل كل صباح والتخطيط لمقلب جديد نحيكه ل"نجوى" صديقتك.. أرجوكي لا تذهبي هكذا دون أن تنامي على كتفي في دلال أمام التلفاز لنتحدث سوياً في مرح تاركينه يعرض ما يشاء دون الأهتمام به.. لا تنامي قبل أن تشدي مني الكتاب في رقة لتأمريني بالنوم حتى لا أرهق في اليوم التالي.. لا تجيب.. ظل محدقاً بزوجته لا ينطق حتى ارتفع صوت هاتفها يرن بأغنيتها المفضلة كعادته في السابعة و النصف حين تتصل بها نجوى  يا ضحكة الرمان .. نادت على العطشان.. وحلمك النعسان.. خايف من الهزة

 

كـتابة : حـــسام الديـــن ســـالــم
 
 جلس على كرسي  مكتبه الضخم و أمسك بعويناته السميكة و هنا جاء إليه خاطر يذكره بوقت لم يكن يرتدي فيه هذه العوينات منذ بضعة عقود فتحسس شعره الأشيب للحظات ثم نفض هذه الأفكار من رأسه فلن يقبل بأن ينسى العمل الهام الذي جلس من هنا من أجله بسبب التفكير في مثل هذه التوافه فارتدى العوينات و التقط قلمه من على المكتب و جذب دفتر الأوراق أمامه ليسحب منه ورقة كبيرة ليبدأ في مهمته  أشعل المذياع ليستمع إلى صوت كوكب الشرق و هو يسترسل في كتابته، بدأ سن القلم يركض على الورقة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار تاركاً خلفه آثار قدمه الوحيدة على الورقة  و كانت النتيجة هي هذه الكلمات :فلذة كبدي و بصيص الحياة في عيني الواهنة  : أكتب إليك بعد غيابك سنة كاملة في بعثتك هذه، منذ ساعات قليلة كنت أشاهد في التلفاز لقطات أحد الأفلام لطفل يلعب في حديقة منزله، و لم أتذكرك حينها لأنني ما كنت لأنساك لحظة في حياتي اليومية و لكن رؤية هذا الطفل أشعلت بداخلي رغبتي المتقدة في الكتابة إليك فجلست على مكتبي و قررت أن أطلق سراح يدي لتخرج ما يزخر به عقلي من كلمات .. إنني مازلت أذكر يوم مولدك حين كنت في عملي رغم الإجازة بسبب أعمال طارئة جعلت المدير نفسه يطلبني للحضور و إنجاز هذه الأعمال، ذهبت إلى عملي و أنا قلق بشأن والدتك التي قد تلد في أي لحظة و لكن بعد أن أوصيت والدتها أن تطلبني فور وقوع أي ظرف من الظروف ، و اختار الله أن يكون اليوم الذي تأتي فيه أنت إلى الدنيا هو اليوم الوحيد منذ أسبوعين الذي أذهب فيه لعملي بعد أن حصلت على إجازة بدون مرتب رفقاً بحال أمك الهشة المتعبة، كما اختارت هيئة التليفون أن يكون هذا هو الوقت المناسب لانقطاع الحرارة ، علمت بعد ذلك أن جدتك لم تستطع التصرف فانطلقت إلى الباب تستصرخ البواب لينقذها فأقدم إلها –حفظه الله- مهرولاً و اصطحبها هي و ابنتها إلى المستشفى ، و دخلت أمك فوراً إلى حجرة العمليات و بعد ساعتين تنبعت والدتها إلى حقيقة إمكانية إخباري من تليفون المستشفى فطلبتني في العمل لتخبرني أنك على وشك المجيء.. بُهت من الخبر و تركت عملي دون إطلاق أي كلمة لنظرات و تساؤلات الزملاء و ذهبت فوراً إلى زوجتي، لم أكن أحمل إليك أي مشاعر في هذا الوقت و لكني كنت أرتعد خوفاً عليها، صعدت أدراج المستشفى مسرعاً حتى رأيت جدتك تقبل علي مبشرة بحلولك و سلامة ابنتها فأسرعت إلى الحجرة التي نقلت إليها فإذا بوجهها البرئ يشرق بابتسامة جميلة رغم وهنها و إنهاكها ، قبلت يدها الدقيقة فأخبرتني في ضعف أنها رأتك و انك في الحضانة .. بدأت أخطو بمشاعر متضاربة لرؤيتك فوجدتك روحاً صغيرة تتلوى في مهدها، عند هذه اللحظة فقط بدأت مشاعري تلتهب تجاه قطعة اللحم الصغيرة هذه، شعور غريب بدأ يهز أعماقي بين الفرحة الشديدة بهذه الهبة و القلق الشديد على هذا الطفل من الدخول في معترك الحياة حملت جسدك الدقيق و ضممتك إلى صدري في رفق فشعرت بدفء جسدك يلهب نار الشوق و اللهفة إليك، و كانت هذه هي البداية
       مازلت أيضاً أذكر يوم وقفت لأول مرة على قدميك الصغيرتين دون مساعدة ، كنت جالساً في حجرة المعيشة أطالع الجريدة
فلمحتك تحبو إلى الغرفة، تركت الجريدة على المنضدة و شعرت أن حدثاً هاماً سوف يحدث في هذه اللحظات ، نظرت إليك و نظرت أنت إلي ثم أكملت حبوك حتى وصلت إلى الطرف الآخر من المنضدة و وضعت يديك عليها ثم بدأت كعادتك تنهض واقفاً مستنداً إلى المنضدة، نظرت لي للحظات طويلة و كأنك تترقب انطباعاتي لهذه المفاجأة ثم وجدتك ترد يديك إلى جوارك ببطء حتى أصبحت على قدميك لأول مرة دون مسند و قد أردت أن تشهدني هذه اللحظة التاريخية، ثم بدأت تهز يديك في عدم اتزان فقفزت إليك لأحتضنك و أترك ذراعيك يسترسلان على كتفي في حنان
أذكر يوم ارتديت ملابس الدراسة لأول يوم بمساعدة أمك و انت غير مدرك لما يعني لك هذا اليوم و بدأنا نفهمك أنك ستقابل أشخاصاً جدد يجب أن تكون لطيفاً معهم و اننا سنفترق قليلاً ثم نعود لنصطحبك مرة أخرى إلى حجرتك الجميلة فظللت واجماً طوال الطريق و عند لحظة الفراق بكيت كما لم تبك في مهدك، و كان نحيبك يمزق قلبي تمزيقاً، و بدأت أمك تبادلك نحيباً بنحيب، و كانت هذه اللحظة من أصعب لحظاتي معك
    و أذكر أول رسمة رأيتك ترسمها، و قد كانت تمثل دوائر غريبة و خطوطاً أغرب، أخبرتني أن هذه هي صورتي فقلت لك في اندهاش مصطنع أنني لم أرى في مثلها جمالاً و تماثلها مع وجهي، و الآن حان الوقت لأعترف لك أنني مازلت أحتفظ بهذه الرسمة في درج مكتبي  و أحاول أن أجد وجه شبه وحيد بيني و بينها و لكنني سعدت بها ربما كسعادتي بيوم وقفت على قدميك
   أتذكر أيضاً ليالي الدراسة حين كانت أمك تستذكر معك دروسك البسيطة و حين كانت تسهر لتقدم لك ما تشاء من شراب و طعام بعد أن أصبحت دروسك أصعب من أن تستذكرها معك، و لقد حرصنا منذ التحاقك بالمدرسة على خلق نوع من الحب للمذاكرة لديك دون أن نجعل منها عبئاً يعييك، و قد نلنا ثمرة كفاحنا معك بثباتك في مصاف الأوائل منذ الصغر
   مازلت أذكر يوم انتظارك لنتيجة الثانوية و ارتباكك و أمك جالسة بجوارك تقرأ القرآن مبتهلة إلي ربها أن تنال ثمرة مجهودك و تلتحق بالكلية التي ترغبها، و أذكر قفزتك العالية عند رؤيتك للنتيجة و قد حصلت على مجموع يفخر به كل أب و كان يوماً مشهوداً بالأحضان الحارة و قبلات التهنئة على جبينك
    و أذكر بالطبع يوم تخرجك بمجموع كبير و انضمامك لهذه البعثة و سفرك للخارج و مازلت لا أدري هل هذا يسعدني أم يبكيني، أفخر بك يا ولدي و أشتاق إلى يوم عودتك و أخشى أن تأتي لحظتي دون أن أرى وجهك الصبوح يشرق علي بحيويته
   أردت أن أخبرك - و انت تعلم- أنني لا أحمل في طيات قلبي حباً يقارب حبي إليك و إنما أولادنا بيننا .. أكبادنا تمشي على الأرض ,, لو لعبت الريح على بعضهم  لامتنعت عيني عن الغمض
 أذكرك يا بني ألا تنسى فضل الله عليك فيما بلغت من النجاح و حاجتك إليه الشديدة لإتمامه و أذكرك - وأنا أثق فيك- بأن تنتقي صداقاتك بدقة في هذا البلد الغريب و من بين هذا المجتمع المختلف عن مبادئ ديننا و تقاليد مجتمعنا و لكن دون ان تكتسب عداوات مع أحد فعليك بالمرونةفهي أحد مفاتيح النجاح، يا بني.. لا تجعل من مصاعب الدنيا أمامك حائلاً عن المضي في طريقك الوعر و تذكر الجنة المنتظرة في نهايته و اجعلها أمام عينيك وقت المصاعب، و ختاماً أخبرك أنني أعلم أنك مازلت تحافظ على قراءة ورد من القرآن قبل النوم كما علمتك في صباك، و أنهي خطابي بتحية مني و قبلات حارة من والدتك العظيمة و أشواق من فتاتك الجميلة - حفظها الله لك -                                                                                   أبوك

    ثم طوى الرجل الورقة برفق شديد و وضعها في ظرف و حمله باهتمام شديد .. كأنه ابنه .. و قام ذاهباً إلى باب غرفته تاركاً الست تشدو  انت عمري اللي ابتدى بنورك صباحه و قد تفهمها بمعنى آخر غير الذي كانت تقصده حين غنت هذه الأغنية

كتابة  :حســــام الديــــن ســالـــ
م

 


   وقفت أمام المرآة الضخمة التي تحتل الحائط بأكمله تنظر لنفسها و تتأمل كل تفاصيل ملامحها و منحنيات جسدها .. عيوني ليست كبيرة كما يحبون و ربما شفتاي صغيرة جداً لا تكاد ترى.. ممتلئة بعض الشيء عند الخصر .. سرحت في أغنية ( حسن عبد المجيد ) و هو يصف محبوبته " الرمش كحيل و الخصر نحيل " .. هل يعنيها حقاً هذا المطرب النوبي الذي  ترتبط به و لا تدري هل ترتبط به حباً لفنه أم لارتباطه لديها بالماضي حين كانت تشاهده .. إن رموشي ليست بطويلة ( هل أنا قبيحة ؟ ) .. عمري الآن أصبح 32 عاماً و مازال الناس ينادوني بهذا اللقب الغريب " آنسة" .. هل هذه مصادفة أم أن الجناس الناقص بين الكلمتين متعمد؟ .. آنسة.. عانسة،و ما الفرق بينهما؟ ربما الأولى هي مجرد تزيين يخفي حرف العين في الثانية... يا عيني... هل قلت تزيين؟... يا لها من كلمة بغيضة.. دائماً تقول لي أمي و هي تنظر بازدراء: تحتاجين لبعض التزيين قبل أن تذهبي لعملك.. أرد محتجة: و هل ما ينتظره الرجال هو بعض المساحيق و ألوان الطيف التي يغرق فيها وجهي حتى يدقوا الأبواب؟.. تقول: لقد تجاوزت الثلاثين و لم يدق بابنا رجلاً غير صبي المكوجي حاملاً لنا الملابس و لا يحمل أي نية أخري غير تسليمها و استلام النقود مصحوبة بالشاي.. أرد و قد بلغ مني الغضب مبلغه من هذه الإهانة : ألا تملين هذا الكلام؟ كل شيء نصيب و أنا أصلاً لا أفكر في هذا الأمر.. أعلم أني كاذبة.. كل ليلة أفكر فيه و أقول لتفسي : و ماذا بعد؟ ..الكوابيس لا تفارق الفراش مثل الخشب و القطن.. أخشى اليوم الذي يرحل فيه أبي و من خلفه أمي و أظل وحيدة أنتظر يوم رحيلي في خوف.. بلا هدف.. كم أحلم بطفلة جميلة امشط لها شعرها بدلاً من العروسة التي لم تعد تناسب سني أبداً.. هل الماكياج هو الحل السحري حقاً ؟.. لم يعد الشباب يقدم على الزواج.. لقد تزوجت أمي في الثامنة عشر من عمرها و كان أبي لم يكمل عامه الثاني و العشرين بعد .. من من الشباب قادر على إقامة فرح و دفع تكاليف الزواج من مهر و شبكة و شقة و في النهاية راتب شهري يكفي شخصين و بعد عام يجب أن يكفي ثلاثة ؟.. إذا كانوا أصلاً لا يجيدون عملاً يكفيهم هموم الحياة .. ما هذه النقطة السوداء في أسفل ذقني؟ ترى هل منظرها قبيح؟.." يا فرح يا مرح يا زينة .. يا قمر نور ليالينا " لماذا اختفى ( حسن عبد المجيد) ولم أعد أشاهده؟.. أنا جميلة المحيا.. نعم.. أنا أدرك ذلك و أعيه تماماً.. إنها أزمة شباب غير قادر على الزواج و ما أنا فيه هو نتيجة لهذه الأزمة وحدها .. لقد تزوجت سعاد صديقتي .. كيف هذا؟ .. أهذا يعني أنني لي يد في عنوستي ؟ .. لكن عبد الوهاب مطاوع الذي أعشق كتاباته و أحفظها كان يقول في بريده "لكل قاعدة استثناء دائماً.. و إذا كنا نقول أن قوانين الحياة العادية أولى بالإتباع فلأننا لا نستطيع أن نقيس على الاستثناء".. إن سعاد استثناء .. لماذا؟.. ربما لأنها جميلة.. ماذا قلت؟و هل أنا قبيحة ؟.. إنها استثناء لأنها استثناء و قد أراد الله أن تكون استثناء.. أما أنا فأتبع القاعدة المريرة .. لا يوجد شباب جاهز للزواج .. لست مشاركة في الأزمة و لكنني ضحيتها.. و لكن ماذا سأفعل؟.. هل سأتقبل الوضع و أعيش في حالة الرعب المنتظرة بعد رحيل والداي _لا قدر الله_

   لاحظ وقوفها أكثر من ربع ساعة أمام المرآة بدون حراك فاقترب منها قليلاً و قال : "سيدتي .. هل أعجبتك المرآة ؟" .. انتفضت فجأة من غيبوبتها و التفتت لصاحب المحل ثم استجمعت نفسها من جديد و قالت : "لا بأس بها" .. في سره: "ياللمسكينة، ألا تعرفين أن لي خبرة عشرين عاماً في هذا المجال يا صغيرتي فتحاولين مراوغتي، لقد كدتي تأكلينها بعينيكي" .. بصوت علني: "يبدو أنك محظوظة يا آنسة.. هذه المرآة لا يوجد منها إلا قطعة واحدة لدي، و أراهن أنك لن تجدي مثلها في أي محل آخر.. ستكون تحفة في صالة شقتكما بإذن الله" .. في سرها: " ياللمسكين، ألا تلاحظ اليأس في ملامحي لتدرك أني لا ثاني لي لنضع هذه التحفة في صالة (شقتكما) " بصوت علني محاولة إخفاء ابتسامتها : " معك حق و لكن بالطبع يجب أن يشاركني في اختيارها" و التفتت إلى الباب .. بخبرة العشرين عام التي لا تفوت فرصة: "إذن أحجزها باسمك حتى لا تضيع منك قبل أن تشرفونا معاً؟" .. بابتسامة ساخرة لم تلحظها عين الخبرة قالت : "لا هي نصيب من سيفوز بها أولاً" و خرجت من المحل دون أن تنظر ورائها .. و بدأت تدندن من جديد " الرمش كحيل و الخصر نحيل و الصبر جميل للي قلبه حبه يابا".. أستطيع أن انتقي الموبيليا التي أحلم بها قطعة قطعة و ها قد أكملت الصالة و لم يبق إلا غرفة النوم و غرفة المعيشة .. قالتها و هي تدخل المحل الذي يليه و صاحب المحل الأول على باب محله يراقب في غيظ زبونة قد تضيع حين ترى جمال الموبيليا في المحل الجديد..

بقلم:حسام الدين سالم